رؤية المؤلف للإصلاح الديني
يدعو محمد علي (مؤلف الكراس كتاب ما بعد القرآن) إلى تأصيل الرَّحمة والحرية والعدل والسلام، دفاعا عن طهارة الإيمان ضد محاولات اقحامه أو تلويثه عنوة في قضايا دنيوية، كقضايا الحكم والخلافة والهيمنة على الناس باسم الإله، الأمر الذي ألحق ضررا بالغاً بالدين من جهة، وبالناس من جهة أخرى.
وأما ركيزة الإصلاح الديني التي يرتكز عليها (صاحب الكراس) فهي تقوم على دعوته إلى ضرورة تخلص المسلمين، بكل مذاهبهم، من قضايا أربع، أو بالأحرى "زوائد بشرية"خطرة دخلت إلى الإسلام ولم تكن جزءاً من رسالته السمحاء، وهي: أولا: "كتب الرواية والحديث" التي خالطها التزوير والاختلاق والتدليس وفقدت بذلك شَرعِيتها وحُجِيَتها. وثانيا: "كتب الفقه والفتوى" المستنبطة من الحديث الظني ومن القياس والإجماع والرأي البشري وثالثا:"الدولة الدينية"،خلافة كانت أو إمامة، والتي كانت سببا للخلاف والفرقة والصراع والإقتتال منذ وفاة الرسول الكريم وإلى يومنا هذا. ورابعا: "سلطة رجال الإفتاء والفتوى" الذين أصبحوا يصدرون فتاوى وأحكاما كما لو أنها وحي منزل من الله (عز وجل).
وبالتخلص من هذه الزوائد البشرية الخطرة التي تم إدخالها عنوة إلى دين الإسلام، سيعود الإسلام رشيقا بلا ترهل أو سمنة أو زوائد ضارة. وبذلك يصبح الدين أكثر يسرا وأقل حرجا وعسرا على الناس.
ولهذا كله فرسالة "الكراس" تدعو لتحقيق رؤية إنسانية للدين متحررة ومنفتحة على آفاق الحياة وتجربة الإنسان غير المحدودة برؤية أحد، وتدعو كل مسلم إلى الإجتهاد الذاتي، وفهم الدين والحياة بنفسه بعيدا عن الفتوى والإفتاء وكل القيود الاخرى والاحكام (المصبوغة بصبغة الدين) التي وضعها نفر من البشر يمتهنون الدين كما لو أنه حرفة أو تجارة. فمن حق أي انسان مؤمن أن يجتهد في عقيدته وإيمانه وأن يفقه دينه بنفسه دون وصاية من أحد مهما أسبغ على نفسه من ألقاب دينية أو تدثر بثياب أو قلنسوات وعمائم لكي تميزه عن بقية الناس ولتضفي عليه هالة من القداسة المزيفة، كما يفعل مشايخ الدين في كل المذاهب الإسلامية. فأحكام الفقه زادت من إصر وأغلال المؤمنين، وخصوصا الطيبين منهم، من الذين يراد لهم الإتباع والتقليد بلا اعتراض ولا سؤال ولا تفكير وفق المثل الشائع الذي يقول:"ألقِها براس عالم واخرج منها سالم"!!
ولهذا فصاحب الكراس يدعو ليس فقط إلى إيقاف مشايخ الدين عن "مهزلة الإفتاء والفتوى" بل يدعو إلى إزالة سُلطتهم الدينية التي تكتسب هالة قدسية مزيفة، هذه السلطة التي أصبح لها سطوة مُرعبة وكلمة مخيفة في نفوس العامة من الناس. وأصبح مشايخ الدين وبمرور الزمن بمثابة كهنة وبابوات وقسيسين، في حين إن الإسلام لا يقر بوجود رجال دين أو كهنة أو بابوات كما يوجد لدى اليهود والمسيحين والأديان الاخرى.
ويقول (صاحب الكراس): الإسلام لا
يعطي سلطة دينية للبشر حتى للرسول الكريم نفسه، إذ نجد القرآن يخاطب الرسول قائلا:
"لَسْتَ عَلَيْهِم بِـمُسَيْطِر"، ويقول في آية اخرى:"رَبُّكُم أَعْلُمُ
بِكُم إِنْ يَشَأْ يَرحَمْكُمْ أَو إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسلْنَاكَ
عَلَيْهِم وكِيْلاً " وفي آية ثالثة يقول:"فإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرسَلْنَاكَ
عَليْهِم حَفِيْظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا البَلَاغُ"، ولهذا يمكننا أن نؤسس
ونقول إذا لم تكن للرسول شرعية السلطة الدينية على الناس فمن باب أولى أن لا تكون
هناك أية شرعية لأي سلطة دينية لمشايخ الدين.
وإذا كان
هؤلاء(المشايخ) يبررون وجودهم لحاجة الناس إلى وجود علماء لغة ونحو وصرف لفهم ما يُشْكل
على عامة الناس فهمه من مُشْكِلِ آيات القرآن الكريم، فإن الحل يكمن، عندئذ، بالرجوع
إلى اساتذة وعلماء اللغة والنحو والصرف وهم كثيرون، دونما الحاجة لتقديسهم وإضفاء
هالة دينية عليهم، كما يرجع الناس إلى أي كتاب أو مصدر أو مرجع علمي آخر في
حياتهم. ثم إنَّ
الدين ليس علما ولاحرفة ولا اختصاصا ولا طلسما لا يفقهه إلا المختصون. فرسالة
الاسلام واضحة وبيِّنة وقد عبر عنها القرآن وقال: "هذا بَيَانٌ لِلناسِ"
وقال: " وَنَزِّلْنَا عَلَيْكَ الكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ" فكيف
يكون هذا "التبيان" بحاجة الى بيان وتبيان وشرح من مشايخ الدين؟ وقال
القرآن في آية اخرى:"ولقد جِئْناهُم بِكِتابٍ فصَّلناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمةً
لِقَوْمٍ يُؤمِنُونَ" فهل يحتاج الواضح والمفَصَّل إلى بيان وتوضيح؟
وأما
الأحكام القرآنية، فالمؤلف يرى أنها، هي الأخرى، خاضعة لإِعمال العقل والإجتهاد
والفهم المتجدد وفق ثقافة وأعراف العصر الراهن، وليس وفق فهم وفقه اناس كانوا
يعيشون في الصحراء وفي القرى التي لم يكن فيها من وسائل الحياة إلا خيمة ومرعى
ووسائل للصيد بالإضافة الى قليل من التجارة وكثير من الإغارة والغزو على القبائل
الأخرى. إذ اننا نرى كثيرا من الاحكام والتشريعات القرآنية نزلت وفق تلك
الاحتياجات (المحدودة) وتلك الثقافات والاعراف والأزمنة السالفة لتكون أنموذجا
لتجربة بشرية على كل من يأتي لاحقا أن يستخلص منها العِبر، وليس بالضرورة أن
يطبقها بحذافيرها، وإلا فسيرفضها المجتمع كما رفض واستنكر "تجربة
الدواعش" الذين أرادوا أن يعيدوا تجربة مجتمع صدر الإسلام وأحكامه وأعرافه، ويطبقوها
كما هِيَ، في هذا العصر، فنبذهم الناس وسخروا منهم، بل وقاتلوهم ليتحرروا من
سطوتهم وإرهابهم الوحشي.
ولهذا
وبناء على ذلك فإن المؤلف يرى أن النصوص الدينية فيها ما هو صالح لكل زمان ومكان، كمنظومة
القيم الأخلاقية، مثل: العمل الصالح، ومنع الظلم أو الإعتداء على الغير، وتحريم
قتل النفس البريئة، وعدم الإكراه في الدين والإحسان للوالدين وكفالة اليتيم وإعانة
الفقير وإغاثة الملهوف، وغير ذلك الكثير من الـمُثُل الإنسانية القيمة التي جاء
بها الإسلام. وقسم آخر متغير يدخل في خانة ما هو ملائم وما هو غير ملائم لحاجات
الناس وأعرافهم وعلومهم المتجددة والمتطورة في كل زمان ومكان. فقوانين الجزاء
الإسلامي، مثلا، من الضروري فهمها وتطبيقها وفق تطور العلم الحديث. فشهادة شاهدين عَدْلَينِ
أصبحت، في زمن تطور العلم الجنائي التي أوجدت عشرات وسائل التّحري لإثبات الجريمة،
قيمة ناقصة لا تكفي لقتل المتهم بالقتل كما كان الامر فيما مضى من أزمنة سالفة.